الأناقة التعبيريّة والتنظيميّة في كتاب "الأنا الشاعرة الأنثى في شعر نزار قب

الأناقة التعبيريّة والتنظيميّة في كتاب "الأنا الشاعرة الأنثى في شعر نزار قباني"
للدكتور نسيم عاطف الأسدي
بقلم الدكتور منير توما
كفرياسيف
كان الدكتور نسيم عاطف الأسدي قد أصدر مؤخرًا كتابًا يحمل عنوان "الأنا الشاعرة الأنثى في شعر نزار قباني" حيث قُدِّم هذا الكتاب في حينه كبحثٍ إلى جامعة حيفا ونال على أطروحته هذهِ درجة اللقب الثاني (الماجستير) من قسم اللغة العربية وآدابها (2016). وفي ضوء ذلك ارتأيتُ أن أقرأ هذا الكتاب وأدلي برأيٍ أو بتعليقٍ أبلور فيها انطباعاتي وبعض الرؤى حول مضمون هذا البحث الأدبي الشائق وذلك في السطور اللاحقة.
لقد أحسنَ الدكتور نسيم الأسدي صُنعًا باختيارهِ لهذا الموضوع الخاص بشعر نزار قباني الذي هو أولًا وأخيرًا شاعر المرأة وشاعر المرأة فقط، وإنْ طغت صورة الشاعر السياسي على نزار قباني في بعض المراحل. والمرأة التي كتب نزار عنها واستوحاها هي أكثر من امرأة، بل هي المرأة في كل أحوالها، في براءتها ودنسها، في صفاتها وشهواتها، في دلالها وجمالها، في رقّتها وتلوّنها. وعبر قصائدهِ تلك استطاع نزار أن يكون شاعر الغزل الحديث بامتياز ولم يتمكن الشعراء الذين أتوا من بعدهِ أن يخرجوا عنه وأن يتحاشوا أثره إلّا بعدما كتبوا قصيدة الحب المختلفة جاعلين من امرأته الشعرية امرأة وهمية أو صوفية ومن الحب فعل خلاص روحي.
لقد كان نزار قباني شاعر النساء والرجال على السواء.. وقد امتاز واشتُهِر بكونه شاعر المرأة الذي حلّل مشاعرها، وفصّل أحاسيسها بلغة المحلّل النفساني. ولقد انطلق على صهوة الشعر غير هيّابٍ لنقد، ولا منقاد إلّا لصوت الوطن والحب والحرية. ونحن نتفق مع الدكتور نسيم بما أوردهُ في كتابهِ بأنّ الأدب العربي لم يشهد شاعرًا تحدّث بلسان الأنثى في العديد العديد من قصائده كنزار قباني. وقد كان تأثير السفر على الأنا الشاعرة الأنثى في قصائدهِ كبيرًا وملموسًا من خلال عمله الدبلوماسي السياسي لبلادهِ سوريا مما أتاح له رؤية أوروبا كلِّها تقريبًا: فرنسا، المانيا، اسبانيا، السويد والدنمارك وبريطانيا، مُطّلِعًا على ثقافة تلك البلدان وحضارتها وآدابها، ممّا أثّر في نفسِيتِهِ وغيّر من منظوره للعالم في أمورٍ كثيرة كان قد ورثها عن مجتمعِهِ على حد تعبير الكاتب في كتابهِ هذا الذي نحن بصدده حيث يؤكد الكاتب في هذا السياق أن هذا الأمر أدّى إلى تغيير مباشر في شعرهِ وفي الموضوعات التي طرحها من خلالهِ.
يوحي كتاب الدكتور نسيم الأسدي ببحثِهِ الوارد في الكتاب بموثوقية معهودة لا شك فيها أنّ المرأة كانت عند نزار قباني موضوعًا وهدفًا، ونحن قد قرأنا لنزار قوله دائمًا: أن المرأة هي موضوع ابداع كبير وهي لبناء حضارة. وأنّ مطاردة جمال المرأة حق من حقوق الإنسان وعمل حضاري.
يخبرنا الكاتب بأنّ (أول ما نلمسه من التغييرات التي أحدثها السفر على قصائد الأنا الشاعرة الأنثى في شعر نزار قباني هو ازدياد عدد القصائد التي تثور فيها المرأة على واقعها في المجتمع الشرقي، تثور على الرجل ومعتقداتهِ في المرأة وعلى كيفية تعامله معها وعلى تسلّطهِ عليها.
لقد تناول نزار فعل امرأة على خيانة زوجها في قصيدة "رسالة من سيّدة حاقدة"، ومشكلة امرأة حبلى تخلّى عشيقها عنها في قصيدة "حبلى". وفي قصيدة "أوعية الصّديد" تعبِّر امرأة عن جوعها الجنسي عندما لا يقوم زوجها بإشباع رغبتها الجنسية:
(Not to satisfy her sexual desire)
ويقوم الدكتور نسيم الأسدي هنا باستعراض القضيّة التي تطرحها قصائد نزار قباني بلسان المرأة، وتتلخص بثلاثة أنواع لها وهي: غزلية، نقد للرجل / المجتمع الذكوري، وسياسية وطنية. ويقدِّم الكاتب في هذا الصدد جداول وافية مرتبة ترتيبًا لائقًا منظمًا منها جدول يلخص أنواع القضايا في قصائد الأنا الشاعرة الأنثى عند نزار قباني حيث يتضمن اسم الديوان، سنة التأليف، اسم القصيدة، نوع القضية، وجدول آخر بعدد قصائد الأنا الشاعرة الأنثى الغزلية والثورية عند نزار. ولا ينسى الكاتب أن يزوِّد كتابه بجدول يلخص الأوزان الشعرية في قصائد الأنا الشاعرة الأنثى عند نزار قباني، الغزلية والثورية أيضًا. ويردف الكاتب بقولهِ عند هذه النقطة بأنّ الأوزان الشعرية التي بنى نزار حسبها قصائده الغزلية والثورية بلسان المرأة، قد وجدها في أنّ بعض هذه الأوزان اقتصرت على القصائد الغزلية وبعضها على الثورية وبعضها كان مشتركًا في النوعين.
ويشير الكاتب في استرساله بالحديث أنّه إذا أخذ القصائد التي تحدثت بها المرأة بلسانها عند نزار قباني، فإنّه سيجد تحقيقًا وتجسيدًا لمفاتيح شعرية ثلاثة، هذا التحقيق صنعه السفر إلى اوروبا والتأثر بلغاتها والانكشاف على أساليب متنوعة
(Exposure on various methods) تشكّل فيها المرأة جزءًا هامًا من المجتمع وتشغل فيه أدوارًا عدّة وتنعم بقسط وافر من الحرية. وفي هذهِ المعاني، أودُّ أن أسوق هنا قولًا لنزار قباني في إحدى مقابلاتهِ الصحفيّة أنّ "المرأة هي الشعر، وليست ملحقة بهِ، أو مضافة إليهِ، أو هامشًا من هوامشهِ، والشعر يجد في المرأة مرضعته وحاضنته وأنثاه، ولا يستطيع الشعر أن يكبر ويترعرع ويقف على قدميه دون امرأة ولا تستطيع المرأة أن تغوي وتفتن وتلعب بالعالم كعصفور أزرق إلّا اذا كان الشعر رفيقها وحبيبها، إذن فالمرأة والشعر يكملان بعضهما، هي تعطيه الإشتعال والتوهج والمادة الأولية للإبداع، وهو يجمّلها ويكحلها ويحفظها من التبدّد والإندثار" - ويضيف نزار قباني مؤكدًا وقائلًا أنّ "المرأة في شعري أعطته حضورًا مائيًا ونفضت عن أبجديتي الغبار الصحراوي وأنا لا أتحدث عن شعر الحب فقط، وإنما أتحدث عن كل ما كتب عن شعر ونثر، فالمرأة تلاحقني كسحابة، وتنشر ظلالها حتى على شعري القومي والسياسي".
ويُكَرِّس الدكتور نسيم الأسدي في كتابهِ فصلًا خاصًا عن مميزات قصيدة الأنا الشاعرة الأنثى عند نزار قباني مع مقارنة لمميزات مثل هذه القصيدة التي تكتبها المرأة مجملًا في البداية أهم مميزات قصيدة الأنا الشاعرة الأنثى التي تكتبها المرأة والتي تتلخص في النقاط التالية: صدق العاطفة وحدّتها واستوائها، القدرة على الإيحاء بواسطة الصور، وضوح التجربة الشعرية والوحدة العضوية للقصيدة، روعة الخيال، التفنن في الصياغة الموسيقية، امتلاء الشعر بالصور والتعبيرات النسوية، رقة التعبير، تزيين الشعر ببعض ألوان الحلية اللفظية والمعنوية والإيقاعات الموسيقية، تصوير شعرهنّ تصويرًا دقيقًا لعواطفهنّ ونفسياتهنّ وانفعالاتهنّ، الاستخدام المكثّف للألوان.
ويرى الكاتب أنّه من خلال مقارنته بين مميزات قصيدة الأنا الشاعرة الأنثى التي تكتبها المرأة وبين مثل هذه القصيدة عند نزار هناك تشابه إلى حد كبير مع مميزات قصائد الشاعرات اللواتي تحدّثن بضمير المتكلّم المؤنث بعدّة حالات وصور، أمثال نازك الملائكة، نبيلة الخطيب، سعاد الصباح.
ويستمر الدكتور نسيم في الفصل السادس لكتابهِ في البحث حول مقارنة بين موضوعات قصيدة الأنا الشاعرة الأنثى التي تكتبها المرأة وما يكتبه نزار في هذا الشأن من موضوعات، مبيّنًا أهم الموضوعات التي يتولد شعر المرأة منها وهي: الحزن، الحب، الزمان، الأمومة، قضية المرأة، والتمرد على الفطرة الدونية لها، القضايا القومية الوطنية، علاقة الشاعرة مع الأب، العلاقة مع الأخت، العلاقة مع الأم، العلاقة مع الأخ، العلاقة مع الرجل (الحبيب / الزوج) وعلاقات أخرى.
وبتركيزنا على هذه الموضوعات في شعر نزار قباني بهذا الصدد نجد مثلًا على حالة الحزن في قصائد نزار بلسان الأنثى أنّ الرجل هو من ينهي الحزن بحضوره ووجوده حيث يأتي الكاتب بقول نزار:
إرجع إليَّ فَإنّ الأرضَ واقفةٌ…
كأنما الأرضُ فرت من ثوانيها
ارجع فبعدك لا عقدٌ أعلقهُ…
ولا لمستُ عطوري في أوانيها
ارجع كما أنتَ صحوًا كنت أم مطرًا…
فما حياتي أنا إنْ لم تكن فيها.
ويتابع الكاتب في موضوع الحب ايراده مثالًا على تصوير اللذائذ الحسية عند الأنا الشاعرة الأنثى في قصائد نزار حيث جاء فيها:
يغصبُ القبلةَ اغتصابًا وأرضى
وجميلٌ أن يؤخذَ الثغرُ عنوةْ
ويشير الكاتب أيضًا إلى تأثير كلام الحب على المرأة في قصائد نزار بلسان الأنثى، كما في قصيدة "حكاية":
قال ما قال، فالقميصُ جحيمٌ
فوق صدري، والثوبُ يقطرُ نشوةْ
قال لي: مبسمي وريقة توتٍ
ولقد قال: إنّ صدري ثروةْ
أَأنا حلوةٌ؟ وأيقظَ أنثى
في عروقي، وشقّ للنورِ قوةْ
ويذكر الكاتب الباحث أن الأنا الشاعرة الأنثى في القصائد النزارية تعطي الحب هذه الهالة المقدسة بصورة مباشرة أو بكلمات تحمل معانٍ قدسية مثل: "الشهادة"، "النبي" أو غيرها من التعابير كقولها:
وادفني.. تحتَ رمادِ يديك
شهيدة عشقٍ صوفية
وكذلك قول الأنثى:
إنْ كنتَ نبيًّا.. خلّصني
من هذا السحر
من هذا الكفر
حبّك كالكفرِ.. فطهّرني
من هذا الكفر.
وعن موضوع الزمن وخوف المرأة من مرورهِ يورد الكاتب قول نزار بلسان الأنثى:
يروّعني
شحوب شقيقتي الكبرى
هي الأخرى
تعاني ما أعانيهِ
تعاني الساعة الصفرا
قطار الحسنِ مرّ بها
ولم يترك سوى الذكرى
ولم يترك من النهدين
إلّا الليف والقشرا
ولقد بدأت سفينتها
تغوص.. وتلمس القعرا.
ومن اللافت في قصائد نزار، أنّ موضوع الأمومة يتمثل في قول ومخاطبة الشاعرة الأنثى لحبيبها كطفلها حيث تقول:
أنتَ طفلي الصغير.. أنت حبيبي
كيفَ أقسو على حبيبي وطفلي؟
وتقول الأنثى الشاعرة عند نزار منتقدة ثقافتنا بمقطوعة شعرية يوردها الكاتب:
ثقافتنا
فقاقيع من الصابون والوحل
فما زالت بداخلنا
رواسب من أبي جهل
وما زلنا
نعيش بمنطق المفتاح والقفل
نلفّ نساءَنا بالقطنِ.. ندفنهنّ في الرّمل.
وعن علاقة الأنا الشاعرة الأنثى في قصائد نزار مع الآخرين من خلال شخصيات وهي الزوج، الأب، الأخ، الأخت، الأم، الصديقة والجارة، فإنّ الكاتب يبيّن أن الشخصيات الأنثوية ظهرت في قصائد التمرّد والثورة على المجتمع الذكوري، أما الشخصيات الذكورية فقد ظهر الرجل (الحبيب) في نوعيها: الغزلي والثوري على المجتمع الذكوري، وظهرت باقي الشخصيات الذكورية المتمثلة هنا بالزوج، الأب، والأخ فقط في القصائد الثائرة على المجتمع وعلى السلطة الذكورية كما في عدد من قصائد ديوان "يوميات امرأة لا مبالية".
وفي ختام استعراضنا لكتاب الدكتور نسيم عاطف الأسدي في بحثه الشامل الثري عن موضوع الأنا الشاعرة الأنثى في شعر نزار قباني، فإنني لا بُدَّ لي إلّا أن أقول إنّ الحديث عن نزار قباني الشاعر والإنسان حديث ذو شجون، وتظل رحلته الطويلة في عالم الحرف رحلة خاصة ومتفردة، فهو الشاعر الأكثر روعةً لا لكونهِ ابدعَ وحسب، بل لكونهِ المبدع الذي وصلت حروفُهُ الملتهبة بالتوهج والحب إلى قلب كل عربي على امتداد الوطن العربي من المحيط إلى الخليج. فهو شاعر موقف، وعرّى كثيرًا من مواطن الخوف والظلام، وهو حين يكتب عن المرأة مزج في براءة مطلقة بين المرأة والوطن، باعتبار المرأة هي منطقة للدفء والروعة التي لا بد أن تملأ ساحة المكان.
وأخيرًا وليس آخرًا، لا يسعني إلّا أن أُشيد بكل حرارة وثناء وإطراء على هذا الكتاب البحثي الذي أنجزه الدكتور نسيم عاطف الأسدي، مهنئًا إياه على موضوع ومضمون كتابه لما فيه من تنوير واستنارة عن أدب وشعر نزار قباني، ذلك الصوت الذي وصل عمق الوجدان العربي، فكان نزار قباني علامة فارقة في المسار الشعري العربي والانساني، والذي أدهشنا بكلماتهِ ورؤاه التي أحسنَ وأجاد الدكتور نسيم عاطف الأسدي في التطرق إليها بتوسع لموضوعٍ فريد من نوعهِ في شعر نزار قباني، فللدكتور العزيز نسيم خالص المحبة والاحترام مع أطيب التمنيات بموفور الصحة المستدامة وبدوام التوفيق والمزيد من الإبداع والعطاء.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع الملتقى بفسح المجال أمام الكاتب لطرح افكاره االتي كتبت بقلمه ويقدم للجميع مساحة حرة للتعبير نأمل ان تعجبكم
تعليقات